( جندي إسرائيلي يبكي نفسه .. )
الليل شديد السواد .. و نقيق الضفادع يصبح أقوى !
الإحساس باقتراب الموت يرعبني .. الموت يطرق باب مخيلتي الليلة أكثر من أي وقت مضى ! لماذا يتملكني هذا الإحساس العميق الليلة باقتراب الموت من حياتي ؟ لماذا !
عند أسفل الموقع ، أرى ظلالاً تتحرك منحنية ممتدة متطاولة ، ترتفع تارة إلى السماء ، و تفرد أجنحتها على الموقع ، و طوراً تهبط حاملة معها نجوماً تلمع في الظلام !
البارحة ، سمعت في الإذاعة الإسرائيلية في البرنامج الذي يبث في اللغة الروسية ، قصيدة قصيرة بصوت أمي !
كانت أمي تمد فيها الجنود الإسرائيليين المرابطين في ( شمال البلاد ) ..
الليل شديد السواد .. و نقيق الضفادع يصبح أقوى !
كان صوتها يرتجف ، تتخلله نغمات غامضة متحيرة ، متخفية وراء نهايات المقاطع الصغيرة .
عند أسفل الموقع .. تتحرك ظلال تبلغ رؤوسها هذه الكوة التي أطل منها الفراغ ..
كانت كلمات أمي محملة بغير ما أرادت أن تقوله في الحقيقة !
امي باتت تكذب كثيراً منذ أن تلقت رسالة من جدتي تدعوها فيها إلى العودة قائلة : لا شيء يستحق العناء ، عودي يا أولغا فالبيت يتسع لنا جميعاً ، و قد جمعت الفطر من الغابة هذا الموسم ، و أبوك قد مات منذ أشهر طويلة ، و غرفته يمكن إعدادها لإيفان فهي جميلة و تطل على النهر .. أما من جهة المصروف ، فلا تقلقي .. فأنا أعمل جليسة لطفل صغير أثناء ذهاب أمه إلى الجامعة .. بالمناسبة أمه من حيفا في ( فلسطين ) .. و قد اخبرتني البارحة أن الجنود الإسرائيليين يقومون بأعمال قذرة في المخيمات التي يعيش فيها أبناء فلسطين .. و أخبرتني أن الفلسطينيين قد اتخذوا منذ زمن قرارهم بقتال الإسرائيليين لاسترجاع حقوقهم في العيش في بيوتهم بكرامة ليس إلا ..
أتعرفين يا أولغا ؟ أتعرفين أني لا رغبة لي في اللحاق بكم .. محمد .. أقصد هذا الطفل الذي أقوم برعايته منذ أشهر ، جعلني سعيدة للغاية ! إنه أسمر و جميل كملاك آت من أيقونة عتيقة .. و قد عدنا قبل قليل من نزهتنا في الغابة حيث ضحك للغربان القافزة أمام عربته الزرقاء و رمى لها فتات الخبز لتأكل ..
أولغا ؟ أستحلفك بالله أن ترجعي ! إرجعي ( فأنت لا تملكين أي حق هناك !!! ) و إذا كت تخشين الإملاق هنا ، فأنا أعدك بأنني سأنفق على دراسة إيفان من عائد عملي هذا ، و من ثمن الفواكه المجففة التي انهيت تحضيرها و قد كان الموسم رائعاً هذه السنة .. كذلك فإني سأترك ك هذه الشقة بعد موتي و البيت الريفي مع حديثته المثمرة ..
أولغا ؟ هل تكتبين الشعر هذه الأيام ؟ زوديني ببعض قصائدك الرقيقة .. التي تفوح منها رائحة عشق روسيا العظيمة .. المتعبة !
تحياتي لك ، قبلي إيفان و أخبريه أني بانتظاره تذكري : غرفة جده جميلة و تظل على النهر .. إنه يحب الرسم منذ الطفولة ، و سيجد هنا ما يستهويه ، أعرف أنك عنيدة و تهوين التغيير .. لكن هل ستعتبرين أنك قمت بالخيار الصحيح عند زيارتك لسفارة الإسرائيليين أول مرة ؟ هل وجدت حلاً لمشاكلك الاقتصادية في دولة اليهود ؟
أولغا ؟ انا مضطرة لإنهاء الرسالة ، فصغيري الجميل الخارج من الأيقونة قد بدأ يستيقظ ، و قد حان وقت إطعامه ، أمه سترجع من الجامعة بعد ساعتين ، و ستتولى العناية به ، و عندها سأذهب أنا إلى البريد لإرسال الرسالة ، أرفق لك في هذه الرسالة صورة لي و لمحمد .. أنظري ؟ إنه يمسك بشعري عابثاً به ضاحكاً .. أولغا ؟ ارجعي إلى بلادك ، فلا شيء يستحق العناء هناك ، ارجعي استحلفك بالله .. قبلي حفيدي إيفان نيابة عني ..
ملاحظة : لم تخبريني ؟ هل قرر الالتحاق بالجامعة ؟ إذا كان قد قرر فأرسلي لي أوراقه لكي أقوم بالاجراءات المطلوبة .. فزملاء والدك سيساعدوننا على إيجاد مقعد له في الكلية التي ينوي الدراسة فيها .
===
الليل يرعبني .. فنافذني هذه لا تطل على النهر يا جدتي ! .. هناك ظلال تقترب .. في الظهر جعبة منتفخة .. على الرأس خوذة .. اليد تتطاول و تسد كوة الموقع !! ركبتاي ترتجفان ! حلقي يجف .. و شعر رأسي ينتصب تحت الخوذة ..
أسمع هدير محركات في الموقع ! هناك جلبة و أصوات جنود تتداخل ؟ صمت !
صوت أمي في المذياع يمتدح الجنود الشجعان في مواقع الجش في شمال البلاد .. أمي تكذب .. فمنذ أيام قليلة كتبت شيئاً آخر لصديقتها في باريس حيث تقيم منذ عشرة سنوات .. قالت أمي في رسالتها الصغيرة التي تركتها على المائدة عندما ذهبت لترد على الهاتف :
آنيا أدرك الآن أني ارتكبت خطيئة لا تغتفر ! أتعلمين ؟ إني أتاجر بالشعر !! فلقد سطر أبياتاً املاها علي الشيطان الشرير .. ليس هذا فحسب ، بل ستلعنينني إن علمت أنني أنشر هذا الشعر الذي أمتدح فيه القتلة !
آنيا .. إني أترد منذ مدة على معالج نفسي .. إن تمزقات مرعبة تفتت موهبتي .. أشعر و كأنني على شفا هوة عميقة لن يستطيع حتى الطب النفسي إنقاذي منها ، أتدرين ؟ الجريمة الكبرى التي ارتكبناها جميعاً نحن الروس ، هي إغماض العين عن حقيقة الدعاية التب أردنا طمعاً عن رغبة طماعة تصديقها .. أتدرين ؟ عين على هذه البلاد ، و عين على الحقائب التي علاها الغبار على التتخيتة الصغيرة !
آنيا .. هل تظنين أنه حان موعد نفض الغبار عن الحقائب ؟ بالمناسبة ، لقد نسيت إخبارك أن ابني ايفان قد التحق بالجيش ، إنه يمضي الآن بالخدمة الإجبارية ، أتعلمين ؟ لقد كانت بالنسبة إلينا ( إجبارية ) بكل معنى الكلمة .. ففي المحصلة ، و كما كتبت لي أمي منذ أيام : لا شيء يستحق العناء !!
آنيا .. ربما أمسح الغبار عن الحقائب عندما يعود إيفان من الخدمة ، لكن هل تظنين أنه سيعود بالفعل ؟
===
الليل يصبح حالكا .. لا قمر في سماء هذا الموقع .. يتناهى إلي صوت هسهسات العشب اليابس ؟ حجارة تتدحرج ؟ أنفاس تتلاحق ؟
لا ، لا ، ربما كنت خائفاً ، أيمكن أن يكون كل هذا عائد إلى ما شعرت به و انا أضرب بعقب بندقيتي ذاك الفتى الأسمر الذي كان ينزف و هو مصاب برصاص جنودنا ؟ هل يخيفني شبحه ؟ أهاتف أصحابه الذين عرفوا أنني أرابط هنا ، فأرسلهم لاصطيادي في الظلام ؟ .. لا ، لا ، لا يمكن أن يحدث ذلك ، فقد كبلناه و رميناه في الشاحنة العسكرية ، و كانت بندقيتي تضغط على عنقه ..
قال الضابط أنه وضع في أحد الجنود في عمق البلاد ولا يمكن له أن يفعل شيئاً بعد اليوم .. لكن من كان معه ؟ من صوب على الإسرائيليين و نسف إحدى سياراتهم في المواقع المتقدمة ؟ لا شك أنهم أصحابه ! و يمكن أن يرجعوا ليقتصوا منا ؟ و ربما كانوا أسفل الموقع الآن ؟ و ربما يكونون قد وضعوا القمر في جيوبهم ؟ و ربما كانوا سيضغطون الآن على زناد أسلحتهم الرشاشة ، و ربما ينقضون علينا في أية لحظة ..
إني اشعر بالحمى .. إني لا أرى سوى الظلام .. صوت المذياع يزعق في رأسي ، فأمي تكذب و تتاجر بالشعر لكي يرضوا عنها في الوسط الثقافي العسكري .. أمي كفي عن الكذب ، فقصيدتك تعريني ! تشعرني بالخزي ! .. إنهم هنا ، تحت ناظري ، و يدي تعجز عن إطلاق النار نحوهم .. إني لا أستطيع رؤيتهم يا أمي ، فقدماي لم تعودا قادرتين على حملي ، إني أتهاوى .. و هم لا يفلتون القمر من جيوبهم .. لقد أصبح القمر مصباحاً في أياديهم التي تصوت نحو الموقع .. نحو نافذتي ..
النافذة هنا لا تطل على النهر .. إنها تطل على الموت ! ..
اكتبي ذلك في قصيدتك التالية يا أمي ، ولا تكذبي ! فإن معتقلاً واحداً في أحد سجون دولتنا يرعبني و أنا هنا على أعلى نقطة في بلاده ! إنه يرعبني بظلال أصحابه الذين يرابطون في خيالي و يشلون حركتي كلما تدحرج حجر إلى النهر من نافذة أجدادهم هنا ..
إني أشعر بالحمى .. و الإحساس باقتراب الموت يرعبني .. و السياط المنهالة على جسد شاب توليت ضغط عنقه بحذائي ، تنهب النوم من قلبي .. إنه يصرخ بي : ارجع إلى بلادك ، حيث لديك غرفة و بيت ريفي و فطر جمعته جدتك من الغابة . ارجع .. ايها السارق .. أيها السارق .. أيها السارق .. فنافذتك هنا تطل على الموت .. على الموت .. على الموت !
==
- من كتاب هناك ظلال تقترب - أميرة الحسيني .
منقول .. وعد
http://www.wa3ad.org/index.php?show=news&action=article&id=2674[u]